مجتمع

«ممتلئ بالفراغ»: كيف يسرقنا الإدمان السلوكي ونحن نظن أننا نعيش؟

حين تنقلب الحياة إلى سعيٍ محموم نحو الهروب، ويصير الإدمان مهربًا من الألم لا طلبًا للمتعة… نكتشف أننا لسنا أحياء حقًا، بل فقط… ممتلئون بالفراغ.

future غلاف كتاب «ممتلئ بالفراغ.. تأملات حول التعافي من الإدمانات والسلوكيات القهرية» (الرواق للنشر والتوزيع: 2023)

«المدمن مريض وليس فاسدًا أخلاقيًا».

إذا انطلقنا من هذا الاعتقاد فسيختلف التعامل كثيرًا سواء للمدمنين أنفسهم أو للمحيطين بهم. هناك اتفاق عام بين الأطباء النفسيين على أن المدمن يحمل طاقات استثنائية منسية ومطمورة تحت غلاف الإدمان. ما يعني أن كل مدمن يحمل مهارة ما، ملكة ما، مساحة إبداع، ولو مجرد فكرة تلح على عقله تدعوه لاتباعها فيما يُعرف بنداء الإبداع الملح فينا، والإبداع طاقة حياة، لكنها مدفونة تحت غطاء الإدمان. ألا ترى أنه يعاني من تناقص عنيف في فاعليته وإنتاجيته؟ طاقة مهدورة لو استثمرها ووظفها لكان في مكانة غير التي يشغلها. لكنه يتعامى عن تكلفة الفرصة البديلة التي فاتته لاختطاف طاقته في محل آخر بفعل الإدمان فيصبح على الحقيقة ممتلئًا بالفراغ، مشغولًا بلهو يخرب حياته بشكل منهجي.

نعرف صور الإدمان الكيميائي التقليدية مثل إدمان الكحول أو المخدرات، ولكن في كتابه «ممتلئ بالفراغ.. تأملات حول التعافي من الإدمانات والسلوكيات القهرية» (الرواق للنشر والتوزيع: 2023)، يفصل الطبيب النفسي الدكتور عماد رشاد عثمان في بعض صور الإدمان السلوكي القهري المتكرر الذي يغير الحالة النفسية ويعدل المزاج مثل مدمني الجنس والعلاقات أو الإباحيات أو حتى مدمني التمارين الرياضية أو ألعاب الفيديو أو الشراء والإنفاق والتسوق. ويوضح أن إدمان الجنس مثلًا غير متعلق بالرغبة الجنسية إنما يتعلق بالشبق، وإدمان الطعام لا يتعلق بالجوع أو الشهية وإنما بالنهم، مؤكدًا أن الإدمان خلل وليس تلبية لحاجة إنسانية طبيعية.

هناك أيضًا ذوو الاعتمادية العاطفية الذين يستخدمون شخصًا بعينه يتصلون به لتحصيل رضاه وارتشاف قبوله ومودته بل وملاحقته لتتخذ العلاقة شكلًا من أشكال الدراما العميقة هي ذاتها مغير للحالة النفسية ومهرب له من شعور عميق بالخواء. وهناك إدمان الطعام الذين يجمع بين نوعي الإدمان الكيميائي لوجود مادة فيه الفعل والإدمان السلوكي وهو النهم والشراهة.

إدراك الإدمان

لا يتناول الكتاب الإدمان كمشكلة إنما كحل معطوب لمشكلة أكثر خفاء ربما ترجع إلى الطفولة، أي أنه «عرض مرضي لبنية اضطراب ذي وجهتين، وجهة عطب في الحوار الذاتي، وعطب في الحوار الواقعي». يقول الكاتب الطبيب إن عادة البشر حين يصيبهم ألم مبرح ويمرون بأزمة غير محتملة، فإنهم ينغمسون طوعًا في ألم آخر، كمحاولة للإلهاء أو ربما فقدان للاتزان من وطأة الألم. هنا يكون الإدمان بحث عن التحام تم إجهاضه مبكرًا أو احتياج لاتصال إنساني لم يسدد. هو حالة من الحداد على فقد قديم أو شرخ في علاقة. وأول التعافي هو التعرف على الاحتياجات وملامح الجوع وأبواب الحرمان لتسديده بطرق أخرى.

وقد يقدم الإدمان نفسه في شكل تمرد وكأنه تحدٍ للسلطة الأبوية مثلًا دون وعي بأن وهم المخالفة ليس تحقيقًا للرغبة الشخصية التي يجب أن تتطهر أولًا من العناد والخضوع على حد سواء. وقد يكون الإدمان مهربًا من الحميمية المرهقة والضاغطة ومن الانكشاف والمجازفة والتعرض للانكسار العاطفي. والمدمن نشأ مثلًا في عائلة معطوبة تعيش صقيعًا نفسيًا عميقًا الأدوار فيه موزعة بعناية دون تداخل فيعيش أفراد الأسرة في جزر منفصلة. حينها يمتلئ المدمن بخوف التبعية والذوبان في شخص آخر، أو الخضوع لسيطرة من يعكر مزاجه ويؤثر على مشاعره. يعيش في خوف من عدم الوفاء باحتياجاته أو عدم قبول الآخر له بالدرجة الكافية أو ببساطة ألا يكون كافيًا للطرف الآخر ومع ذلك فالحميمية لا غنى عنها. هنا يلجأ إلى تلبيتها عبر الانغماس في الإباحيات، بدلًا من التعرف على شريك حياة محتمل والاقتراب منه والاستثمار في العلاقة والالتزام تجاهه وسماع متطلباته وقبول تعرضه للتقييم.

لكن كيف نُعرِّف الإدمان؟

يضع الكتاب ستة محاور كبرى تبدأ بالاستحواذ أو الاستغراق أو الانشغال الزائد، ثم اللهفة التي هي أشبه بهلوسة تضرب فجأة ومعزوفة نفسية تذكر باللذة الغامرة لتطمس أمامها أي عواقب أو خسائر مترتبة على هذا الفعل. تلي ذلك أعراض الانسحاب التي تأتي في الأيام الأولى من التوقف عن الفعل من قلق وضيق أو اضطرابات في النوم أو حزن وانزعاج واكتئاب غير معلوم المصدر وهي تمثل السبب الرئيسي للانتكاسات المبكرة. أما المرحلة الرابعة فهي الإنكار بمعنى الانفصال عن الواقع والهروب من المسئولية عن مواجهة الحقيقة ويشمل التهوين والتقليل، التبرير، التعميم، والوعود.

يكون بعد ذلك الاعتياد أي أن زيادة التعرض أو ممارسة هذا الفعل لم تعد تأتي بالأثر المطلوب ما يجبر المدمن على زيادة الجرعة لتحصيل الأثر المرجو. هنا يحدث الانزلاق الأكبر المتمثل في فقدان السيطرة أي فقدان التحكم في الوقت، واستحالة الكف عن هذا السلوك دون دعم خارجي دون الاعتراف ذلك، بل يلجأ المدمن إلى تمرير خدعة المرة الأخيرة وهو عاجز على الحقيقة عن تفعيل القرار. والاعتراف بحقيقة العجز يحرر المدمن لأنه لن يوهم نفسه أن بإمكانه أن يحوم حول المساحات الخطرة دون الانزلاق والانجراف والسقوط وهكذا سيحترم عجزه ويرحم ضعفه.

أما الأعراض المزمنة للإدمان كما يشرحها عماد رشاد عثمان فهي الشعور بالذنب وعدم الاستحقاق بسبب الإخفاقات المتتالية في القيام بالالتزامات كأثر من آثار الإدمان، وضعف تقدير الذات. تقصم المدمن التقلبات المزاجية إذ تأتي (النوبة) للتخلص من شعور ثقيل وكسر الرتابة القاتلة التي تمتص طاقة الحياة. ويتولد مع الإدمان الرئيسي إدمانات موازية يترافق فيها إدمان المخدرات مع الجنس، أو الإباحيات والعلاقات، أو التسوق ونهم الطعام.

هناك أيضًا روابط يقيمها الإدمان مع أشياء ترتبط بشخصية المدمن حتى يبقى في الدائرة دون مخرج. ربط متعة الصحبة بنهم الطعام مثلًا، أو الكتابة الإبداعية مع إدمان الجنس. هكذا يعيش المدمن في حياة سرية لها جانب اجتماعي ظاهر وجانب باطني مستتر.

التعافي رحلة

الاعتراف بالإدمان هو بداية المواجهة الحقيقية. يبذل بعده المدمن جهدًا في سبيل التعافي لكنه يتعرض لانتكاسة تلو الأخرى فيصيبه الإحباط. الإحباط لا يفيد. ينبغي تذكر أن المجد الحقيقي ليس في عدم السقوط أو الهزيمة أو الفشل بل في عدم النهوض مرة أخرى. لكن في الوقت نفسه، يؤكد الطبيب النفسي أنه لا توجد انتكاسات مفاجئة بل ثغرات في برنامج التعافي ولهذا من المفيد وضع خرائط الانتكاس لتتبع كيفية الانزلاق وسبل الردة. ولهذا من الواجبات العملية للتعافي عمل جرد متفحص لنغمات معزوفة الانتكاسة الشخصية.

من المهم أن نغير نظرتنا للتعافي الذي هو تجربة روحية فريدة نتيجة الاتصال مع الذات بعد انقطاع، وحالة ذهنية تتخلل الحياة بأسرها وليس بداية ونهاية ومحطات واضحة. نستوعب أن قرار التعافي يتطلب تغييرًا حياتيًا شاملًا والتحرر من كل نمط استغلالي، وأنه يتسلزم التدريج فلا يحدث بين عشية وضحاها، وأنه ليس تجربة فردية أبدًا فلا أحد يتعافى وحيدًا. نظرة فاحصة لما تحقق من زمالات التعافي التي يخرج فيها الشخص الراغب في التعافي من حالة الوحدة والاغتراب إلى الشعور بأنه ليس وحيدًا، تُظهر أثرها الكبير مقارنة بما تحققه المصحات والجلسات العلاجية وبرامج التعافي الفردية.

يذكر الكتاب أن برنامج التعافي أو جولة اليقظة تستمر لمدة تسعين يومًا لاستخراج أثر المخدر. وخلال هذه المدة، يجب التعامل مع كل يوم (وحدة) على حدة لبلوغ المأمول فتوضع خطط التعافي بشكل متجدد ومتدرج يوميًا تبعًا للمتغيرات الحياتية ليقول المدمن لنفسه صباح كل يوم: يمكنني أن أمتنع عن هذا الفعل ليوم واحد. ويقدم تمارين وواجبات عملية للتعافي منها المفكرة الانفعالية والتدوين اليومي بما يعيده إلى اليقظة والحضور والوعي بالذات، كما يضم مقياسًا لإدمان الطعام.

في التعافي، كما يقول الكتاب، نعالج الإدمان بممارسة أخرى من شأنها تُحدث الأثر نفسه فيما يُعرف بـ«أثر تتريس»، وذلك على غرار «وداوني بالتي كانت هي الداء». نخصص وقتًا لتخيل مكتسبات التعافي واستحضار صورتها الذهنية. والأهم أن نضع خططًا للمرح البديل لأن الاستغراق في المتع الإدمانية يحول الحياة إلى بؤس عميق على المستوى البيولوجي. دفقات الدوبامين اللحظية المغرقة التي اعتادتها الدماغ مع انهمار كيمياء اللذة المؤقت يجعلها تتوقف مع الوقت عن الإحساس بالمتع اليومية المعتادة لأنها لا تحفز نفس الدفقات بالقدر نفسه. لن تسعد بتمشية لطيفة بالمقارنة مع إدمان اعتادت معه على ارتفاع لحظي صارخ في اللذة. لهذا تصبح إعادة هيكلة العلاقة مع المرح جزء أساسي من التعافي.

# صحة نفسية # قراءات كتب # كتب

التدافع على جرينلاند: القوى الكبرى في القطب الشمالي
«على بصيرة»: خارطة طريق للتعافي من الإساءات الروحية واسترداد الإيمان
سنوات الإسلام الأولى من خليفة بن خياط إلى المطهر المقدسي

مجتمع